الصوت الجنوبي – تقرير خاص

مع دخول الأزمة اليمنية عامها الحادي عشر، يتجه جنوب اليمن نحو مجاعة وشيكة وفق تحذيرات أممية متصاعدة، في وقت تقف فيه الحكومة اليمنية عاجزة عن تقديم أي حلول حقيقية، متسببة في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في المنطقة.

وبينما تعاني المحافظات الجنوبية من أزمة اقتصادية خانقة، تتفاقم المعاناة بسبب غياب الخطط الحكومية الفعّالة، وصمت دولي مريب تجاه ما يحدث.

التقرير الأممي الأخير، الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وبرنامج الأغذية العالمي (WFP)، واليونيسف، رسم صورة قاتمة، كاشفًا أن حوالي 4.95 مليون شخص في الجنوب سيواجهون بين مايو وأغسطس 2025 مستويات “الأزمة” أو “الطوارئ” من انعدام الأمن الغذائي، من بينهم 1.5 مليون في حالة “الطوارئ” – وهي المرحلة التي تسبق المجاعة مباشرة.

انهيار شامل وتخبط حكومي

يقول الصحفي الجنوبي مراد عبدالله “للصوت الجنوبي”: “كل المؤشرات تقول إن الجوع في الجنوب لم يعد أزمة عارضة، بل نتيجة مباشرة لسنوات من السياسات الفاشلة التي انتهجتها الحكومة اليمنية. الحكومة لا تمارس فقط الإهمال، بل تتعمد التدمير من خلال ترك الجنوب وحيدًا في مواجهة الانهيار”.

هذه الأرقام تشكل قفزة مقلقة مقارنة بالفترة السابقة، وسط تحذيرات أممية من أن عدد المتضررين قد يرتفع إلى أكثر من 5.38 مليون شخص بحلول فبراير 2026، وهو ما يمثل أكثر من نصف سكان المحافظات الجنوبية.

تُشير التقديرات كذلك إلى أن 2.4 مليون طفل دون الخامسة و1.5 مليون امرأة حامل ومرضع يعانون من سوء تغذية حاد، وهو ما يعني تهديداً مباشراً لمستقبل أجيال بأكملها، ليس فقط من ناحية التغذية، بل أيضاً على صعيد التعليم والصحة والنمو البدني والعقلي.

العملة تنهار والناس تجوع

فقد الريال اليمني في مناطق سيطرة الحكومة قيمته بشكل كارثي، حيث تجاوز سعر صرف الدولار حاجز 2900 ريال، بعدما كان مستقراً قبل الحرب عند 215 ريالاً. وفي ظل هذا التدهور، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية بنسبة 28%، بحسب برنامج الأغذية العالمي، في وقت لم تواكب فيه الأجور هذا التغير.

الخبير الاجتماعي الجنوبي أنور الكلدي قال “للصوت الجنوبي”: “الناس في الجنوب لم يعودوا فقط ضحايا للحرب، بل ضحايا لنهب الموارد، وسوء الإدارة الحكومية”.

وأضاف: “المواطن أصبح عاجزاً عن توفير الحد الأدنى من احتياجات أسرته اليومية، فيما الحكومة تصرف ملايين الدولارات على الوفود والمخصصات، بينما الرواتب تُنقل من باب إلزامي إلى بند الهبات، وكأنها منة لا حق”.

فساد بلا حدود

الانتقادات لم تتوقف عند الأداء الاقتصادي فقط، بل طالت سياسات الحكومة في إدارة الموارد. فالحديث عن “التجويع الممنهج” لم يعد اتهامًا إعلاميًا بل واقعًا ملموسًا يعيشه الجنوبيون يوميًا، في ظل انعدام شبه كامل لأي مشاريع بنية تحتية أو خدمات عامة. لا كهرباء، لا مياه، لا صحة، ولا صرف صحي لائق، بينما الأموال تُهدر على مؤسسات فاشلة، ومجالس شكلية فاقدة للشرعية.

ويضيف الصحفي مراد عبدالله: “في الوقت الذي تُترك فيه المحافظات الجنوبية تعاني من انقطاع الكهرباء وتفشي الأمراض، تتفاخر الحكومة بتسيير وفود إلى الخارج، أو إصدار بيانات جوفاء. لا توجد خطة حقيقية ولا إرادة للإنقاذ، فقط هروب للأمام”.

وتُقدّر مصادر مطّلعة أن نسبة التحصيل الفعلي للإيرادات السيادية في الجنوب لا تتجاوز 5% من الرقم المفترض قانوناً، وذلك نتيجة إعفاءات غير مبررة لكبار التجار المقربين من مراكز النفوذ في صنعاء ومأرب.

سياسات نقدية تضرب الاقتصاد

ويصف أنور الكلدي قرار البنك المركزي بتعويم العملة كلياً بـ”المذبحة الاقتصادية”، مضيفًا: “بدلاً من كبح جماح الانهيار، فتح البنك الباب للمضاربات، وفشل في ضبط السوق، وسمح بنقل العملة الصعبة من الجنوب إلى الشمال، ما أدى إلى تجفيف السيولة وضرب النشاط التجاري المحلي”.

ويؤكد الكلدي أن البنك المركزي طبع أكثر من 3 تريليون ريال خلال السنوات الماضية دون غطاء حقيقي، ما أدى إلى تضخم مفرط أضر بالمواطن العادي أولاً، وساهم في رفع أسعار السلع الأساسية بطريقة جنونية.

الجنوب يتحمّل العبء

وفيما يخص الاستجابة الحكومية، يشير مراقبون إلى أن الحكومة تفتقر إلى أي خطة استراتيجية، وأن تصريحات مسؤوليها لا تتعدى حدود التبرير وإلقاء اللوم على الأوضاع الأمنية، أو على نقص التمويل، دون تقديم حلول واقعية.

وتؤكد مصادر محلية في عدن لمنصة “للصوت الجنوبي” أن التنسيق بين الجهات الحكومية والمنظمات الدولية يكاد يكون معدومًا، خاصة في المحافظات الجنوبية، التي تُهمّش في توزيع المساعدات، بسبب حسابات سياسية وتوجهات مناطقية، تستثني الجهات المحلية الفاعلة.

في ظل هذه الفجوة الحكومية، تعمل مؤسسات المجلس الانتقالي الجنوبي على مواجهة الأزمة عبر مبادرات إغاثية ومشاريع خدمية محدودة، رغم الإمكانيات الشحيحة.

وقال مسؤولون في هيئة الإغاثة إن الهيئة التابعة للمجلس الانتقالي تنفذ مسوحات ميدانية دورية لتحديد أولويات الدعم في المحافظات، بالتعاون مع المنظمات الدولية.

وأضافوا أن “عدم إشراك الجهات الجنوبية في الخطط الإنسانية يُعد خللاً جوهرياً في طريقة الاستجابة الدولية”، ويؤدي إلى ضياع المساعدات، أو وصولها إلى مناطق أقل احتياجاً على حساب المناطق الأشد فقرًا في الجنوب.

التمويل الدولي يتراجع والجوع يتمدد

في ظل كل هذه الكوارث، لا يتعدى تمويل خطة الاستجابة الإنسانية لليمن حتى الآن نسبة 8% فقط من المبلغ المطلوب. ويعزو مراقبون هذا التراجع إلى تشتيت الجهود الدولية في ظل الأزمات العالمية، إضافة إلى ضعف التنسيق بين الحكومة والمنظمات الإنسانية.

ويحذر الصحفي مراد عبدالله من أن “استمرار الحكومة في استبعاد الفاعلين الجنوبيين سيجعل أي جهد دولي عديم الفائدة”، مشيرًا إلى أن الحل يبدأ من الاعتراف بمشكلة التهميش السياسي والإداري التي يواجهها الجنوب، وتمكينه من إدارة موارده ذاتيًا.

وفي هذا السياق، يرى الخبير الاجتماعي أنور الكلدي أن الحل يبدأ “بتمكين السلطات المحلية في الجنوب من إدارة الموارد، واستقلال القرار الاقتصادي، وإعادة هيكلة المالية العامة”. كما دعا إلى إلغاء قرار تعويم الريال، وزيادة الرواتب، وإعادة الاعتبار لقطاعات الإنتاج المحلي.

وختم الكلدي حديثه بالقول: “لدينا كوادر وكفاءات ومؤسسات محلية قادرة على النهوض بالجنوب، بشرط إخراج الحكومة من المعادلة، أو على الأقل الحد من هيمنتها على مقدراتنا”.

وحتى تتغير المعادلة السياسية والاقتصادية، فإن أجراس الخطر التي تقرعها الأمم المتحدة اليوم، كما حذر الصحفي الجنوبي مراد عبدالله، “ستتحول غداً إلى نواقيس موتٍ على شعب تُرك ليواجه مصيره وحيداً”.