الصوت الجنوبي – تقرير خاص
بينما تعلن مليشيا الحوثي الإرهابية عما تسميه “تعافياً اقتصادياً” في مناطق سيطرتها في الشمال، يعيش اليمنيون واقعاً مغايراً تماماً، يتسم بشلل في القوة الشرائية، ومصادرة مباشرة للدخل، واحتكار كامل لمفاصل الاقتصاد، في وقت تتزايد فيه المؤشرات على انهيار اقتصادي مقنّع تحاول المليشيات تغليفه بخطاب دعائي صارم.

في العاصمة اليمنية صنعاء، لا تعكس واجهات المحلات أو ازدحام الأسواق -إن وجد- أي علامات على تحسن اقتصادي حقيقي. فالموظفون الحكوميون، وهم الشريحة الأكبر من السكان، لا يتلقون رواتبهم منذ سنوات، فيما ترتفع أسعار السلع تدريجياً، في ظل انعدام فرص العمل، واتساع رقعة الفقر والجوع.

وعلى الرغم من إعلان المليشيات الحوثية المتكرر عن “استقرار نسبي” في سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار، إلا أن هذا الاستقرار المفترض تحقق عبر أدوات قسرية وقيود شديدة على تداول العملة، لا تعكس مؤشرات اقتصادية حقيقية.

استقرار قسري للعملة

أكدت مصادر مصرفية في صنعاء “للصوت الجنوبي” أن سعر الدولار حافظ، منذ فترة طويلة على مستوى لا يزيد عن 550 – 530 ريالاً في مناطق الحوثيين، مقارنةً بمستوى يفوق 1600 ريال في الجنوب حاليا، لكن هذا الفارق لا يعكس فروقات في القوة الشرائية أو الوضع المعيشي، بل هو نتيجة لسياسات قمعية فرضتها الجماعة على شركات الصرافة والمواطنين.

وقال الصحفي الجنوبي زايد اليافعي، في حديث “للصوت الجنوبي”، إن ما يحدث في صنعاء ليس استقراراً اقتصادياً حقيقياً، بل “خنق منظم للسوق” أدى إلى “انخفاض بالإجبار” لسعر الدولار، دون أن يصاحبه تحسن ملموس في حياة الناس.

وأضاف: “الحوثيون صادروا الحريات الاقتصادية، وأجبروا الشركات والمحلات على عدم التعامل مع العملة التي طبعتها الحكومة، ومنعوا تداول الريال في صورته الحديثة، ما أدى إلى ركود كبير في العملية الاقتصادية”.

وأشار اليافعي إلى أن “الواقع المعيشي المتردي في مناطق الحوثيين يفضح هذا الاستقرار الزائف”، متسائلا: “كيف نتحدث عن تعافٍ والناس لا يجدون رواتبهم ولا قوت يومهم؟”.

لا اقتصاد حقيقي في الشمال

منذ سيطرتهم على صنعاء في 2014، استحوذ الحوثيون على البنك المركزي، وأوقفوا دفع رواتب مئات الآلاف من الموظفين وربما الملايين، باستثناء بعض الحوافز الرمزية المرتبطة بمناسبات دينية أو تعبئة حربية، بينما أنشأوا نظاماً اقتصادياً موازياً، يستفيد من الجبايات والضرائب المفروضة على التجار والسكان.

وحول ذلك، قال الصحفي الجنوبي، سالمين باقي “للصوت الجنوبي”: “الحوثيون لا يديرون اقتصاداً، بل شبكة جباية ضخمة. هم يعتمدون على فرض الضرائب والإتاوات تحت مسميات الزكاة والمجهود الحربي، ويحتكرون استيراد المشتقات النفطية والاتصالات وتحويل الأموال”.

وأضاف: “في الواقع، لا توجد دورة اقتصادية حقيقية في صنعاء، بل حالة من الإفقار الجماعي والسيطرة المطلقة على كل الموارد. المواطن أصبح عاجزاً حتى عن شراء كيس دقيق أو علبة دواء”.

وبشأن تأثير هذه السياسات على المجتمع، قال باقي: “الإخوة في الجمهورية العربية اليمتية يعانون بصمت، لأن القمع الأمني شديد. كل من يشتكي أو يتحدث عن الأزمة يُتهم بالخيانة أو بالتعاون مع العدوان. هذا ليس اقتصاد دولة، بل اقتصاد ميليشيا مسلحة”.

ويشكل انقطاع الرواتب في مناطق الحوثيين مأساة مستمرة، فموظفو الدولة المدنيون، ومن ضمنهم المعلمون والأطباء والموظفون الإداريون، لا يتلقون رواتب منتظمة منذ العام 2016. وبرغم وعود الحوثيين المتكررة بصرف الرواتب، لم تُنفذ تلك الوعود حتى الآن.

ويقدر برنامج الأغذية العالمي أن أكثر من 17 مليون يمني يعانون من انعدام الأمن الغذائي، يعيش معظمهم في مناطق سيطرة الحوثيين.

طباعة نقدية خارج القانون

في تحدٍ مباشر للحكومة المعترف بها دولياً، أصدر الحوثيون مؤخراً كميات كبيرة من الطبعة الجديدة، فئتي 50 و200 ريالا. وتُفرض هذه العملة على المواطنين والتجار دون أي غطاء نقدي، ما يزيد من هشاشة الاقتصاد ويعزز السيطرة المركزية للجماعة على التعاملات المالية.

اقتصاد الحرب

يُجمع المراقبون على أن الحوثيين يحوّلون الاقتصاد إلى أداة للحرب، ووسيلة للإثراء السريع. فالجماعة تفرض ضرائب على كافة الأنشطة الاقتصادية، حتى الباعة المتجولين، وتجبر التجار على دفع ما يسمى “مجهوداً حربياً”، وهو ما أدى إلى هروب كثير من رؤوس الأموال إلى مناطق الجنوب أو خارج اليمن.

ويؤكد صحفيون شماليون أن التجار في الشمال باتو “لا يستطيعون العمل بحرية”، وأضافوا “للصوت الجنوبي” أنه في كل أسبوع يأتي التجار مندوب من جهاز حوثي مختلف لجباية الأموال، من الهيئة العامة للزكاة، إلى مكاتب الأوقاف، إلى اللجان الثورية”. مشيرين إلى أن “الأمر في صنعاء وغيرها من مناطق سيطرة المليشيات أصبح لا يُحتمل”.

تقارير دولية تدق ناقوس الخطر

أفادت تقارير دولية، من بينها تقارير لجنة الخبراء الأممية، بأن جماعة الحوثي تجني مئات الملايين من الدولارات سنوياً عبر شبكات اقتصادية غير قانونية، تشمل تهريب النفط الإيراني، وفرض الضرائب المفرطة، والسيطرة على مؤسسات إيرادية كالجمارك والاتصالات.

كما أشارت تقارير دولية إلى أن “الإدارة الاقتصادية الحوثية تفتقر إلى الشفافية، وتُدار بمنطق أمني بحت، ما يجعل الوضع الاقتصادي في مناطق سيطرتهم هشاً، وقابلاً للانفجار في أي لحظة”.

مأزق اقتصادي في الأفق

رغم القبضة الحديدية، تبدو جماعة الحوثي عاجزة عن تقديم حلول اقتصادية حقيقية. فالمساعدات الإنسانية تتقلص، وموارد الجباية تصل إلى حدودها، في حين تنكمش السوق وتزداد معدلات الهجرة الداخلية والنزوح الاقتصادي نحو الجنوب.

ويحذر اقتصاديون من أن “الاستقرار السعري” الذي تروّج له الجماعة لن يصمد طويلاً، في ظل غياب الإنتاج الحقيقي وانعدام الشفافية ورفض التعامل مع النظام المصرفي الوطني.

الجنوب يحقق مكاسب

في المناطق المحررة الجنوبية، وعلى الرغم من التحديات، شهدت العملة المحلية تحسناً خلال الفترة الأخيرة، بفضل إجراءات نقدية قادها المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة الرئيس القائد عيدروس بن قاسم الزُبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي بالتعاون مع البنك المركزي في عدن.

ويقول مراقبون إن التقدم في الجنوب يؤكد أن التعافي الاقتصادي لا يمكن أن يتم إلا عبر سياسات شفافة وتكامل مؤسسي حقيقي، وهو ما تفتقر إليه إدارة الحوثيين.

ويتضح من مجمل المعطيات أن ما يُروّج له الحوثيون من تعافٍ اقتصادي ليس سوى واجهة زائفة لواقع منهار. فـ”الانخفاض بالإجبار” لسعر الدولار لا يترجم إلى تحسن فعلي، بل يخفي وراءه انهياراً كاملاً للقوة الشرائية، وانتهاكاً متواصلاً لحقوق المواطنين الاقتصادية.

في وقت تستمر فيه الجماعة بإحكام قبضتها الحديدية على كل مفاصل الحياة في الشمال، يبقى الاقتصاد رهينة بيد من لا يعرف سوى لغة الحرب والنهب، بينما يدفع المواطن البسيط الثمن، كل يوم.