الصوت الجنوبي – تقرير خاص

في صيف حضرموت اللاهب، لم يعد انقطاع الكهرباء مجرد أزمة خدمية عابرة، بل تحوّل إلى معضلة إنسانية خانقة. فالأهالي في مدينة المكلا يعيشون حياتهم اليومية وسط حرارة خانقة، حيث تنطفئ الكهرباء لساعات طويلة مقابل تشغيل محدود لا يفي بالحد الأدنى من احتياجات الناس.

الأزمة لم تنشأ من عجز تقني بحت، بل ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بالصراع على الوقود. إذ أقدم مسلحون من ما يُعرف بـ”حلف قبائل الهضبة” على عرقلة الإمدادات المخصصة لمحطات التوليد، الأمر الذي أدخل مديريات الساحل في ظلام طويل. وبينما يبحث المواطنون عن بدائل مكلفة، ظلت المعالجات الرسمية غائبة أو مؤجلة.

وما ضاعف من مأساوية المشهد أن الكهرباء تحولت إلى أداة ابتزاز سياسي بين القوى المتنازعة، على حساب حياة المواطنين. هنا، لم تعد المعاناة مجرد تقنين للتيار، بل صارت شكلاً من أشكال العقاب الجماعي، في ظل تجاهل رسمي وصمت حكومي لا يقل قسوة عن العتمة ذاتها.

اللجنة المجتمعية: معطيات فنية تكشف حجم الكارثة

في ظل اشتداد الأزمة، برزت مبادرة مجتمعية تمثلت في تشكيل لجنة لمتابعة ملف محروقات الكهرباء. اللجنة ضمّت شخصيات قبلية وأكاديمية واجتماعية، وحصلت على تفويض رسمي لمتابعة الإمدادات وضمان وصولها.

اللجنة قدّمت تقارير استندت إلى مختصين محايدين أثبتت أن الاحتياجات اليومية للمؤسسة تصل إلى 705 ألف لتر مازوت و495 ألف لتر ديزل. ورغم وضوح الأرقام، فإن التوصيات لم تلقَ تجاوبًا من قيادات الحلف التي واصلت سياسة العرقلة، وهو ما اعتبرته اللجنة استهدافًا متعمّدًا لخدمات المواطنين.

هذه الحقائق، التي أعلنتها اللجنة في لقاء عام بمدينة المكلا، كشفت أن الأزمة لم تعد مجرد عجز إداري، بل امتدت لتصبح جزءًا من لعبة سياسية تتجاوز حدود الخدمة إلى مساحة الصراع على النفوذ.

غير أن اللجنة اكتفت بالكشف والتشخيص، بينما ظلّ الموقف القانوني الرسمي ينتظر تدخل طرف آخر يملك الغطاء السياسي والتنظيمي لتحريك الملف على نحو مختلف.

فريق التوجيه الرئاسي: حضور ميداني ورسائل سياسية

في خضم هذه الأوضاع، برزت تحركات فريق التوجيه والرقابة الرئاسي الذي وصل المكلا في إطار نزولاته الميدانية. وعقد الفريق برئاسة المحامي يحيى غالب الشعيبي لقاءً موسعًا بتنفيذية انتقالي المكلا، بحضور قيادات محلية.

اللقاء لم يكن بروتوكوليًا فحسب، بل ناقش الأزمة الخدمية وعلى رأسها ملف الكهرباء، واستعرض نتائج اللجنة المجتمعية، مؤكّدًا على ضرورة استكمال الإجراءات القانونية وعدم الاكتفاء بالتشخيص. الفريق شدّد على أهمية التحرك المؤسسي عبر الأطر القانونية، وإدانة كل المتورطين في تعطيل الإمدادات.

كما أشاد الشعيبي بجهود القيادة المحلية في المكلا، معتبرًا أن ما يجري يتطلب تنسيقًا أكبر بين المجتمع والانتقالي والسلطات الرسمية، مع الدفع باتجاه الضغط القانوني والسياسي لإنقاذ المواطنين من معاناتهم.

انتقالي المكلا يتحرك: بلاغ عاجل للنائب العام

في خطوة تعكس جدية الموقف، تقدمت الهيئة التنفيذية للقيادة المحلية للمجلس الانتقالي الجنوبي بمديرية المكلا ببلاغ عاجل إلى معالي النائب العام بتاريخ 7 سبتمبر 2025.

البلاغ أوضح أن ما يجري من منع مرور المحروقات المخصصة لتشغيل محطات الكهرباء يُعد حصارًا خانقًا يهدد حياة المواطنين، ويؤدي إلى انتهاكات جسيمة لحقوقهم الأساسية. كما حمّل أطرافًا بعينها مسؤولية ما وُصف بالجريمة المكتملة الأركان التي تمس الأمن والاستقرار.

وطالبت الهيئة النائب العام بالتدخل الفوري لرفع القيود وضمان وصول الإمدادات إلى المحطات، إلى جانب فتح تحقيق شامل مع جميع الأسماء التي وردت في التقارير، ومحاسبة كل من يثبت تورطه قانونيًا.

هذه الخطوة شكّلت انتقالًا مهمًا من مستوى التحذيرات الشعبية إلى مسار قانوني واضح، يضع الأزمة أمام سلطة القضاء ويجعلها ملفًا رسميًا لا يحتمل المماطلة أو التسويف.

النائب العام يستجيب: فتح مسار قضائي جديد

تجاوب النائب العام مع البلاغ المقدم من انتقالي المكلا، ووجّه نيابة استئناف الأموال العامة بمحافظة حضرموت بالاطلاع والتصرف وفقًا للقانون.

هذا التوجيه، الذي جاء بعد ساعات قليلة من استلام البلاغ، فتح مسارًا قضائيًا جديدًا يضع المتورطين في أعمال التقطع وعرقلة الوقود تحت طائلة المساءلة. وهو ما اعتبره مراقبون خطوة أولى نحو إنهاء حالة الإفلات من العقاب التي ساهمت في تفاقم الأزمات.

أهمية التوجيه تكمن في أنه اعتراف رسمي بأن الأزمة لم تعد مجرد خلل إداري، بل قضية قانونية تستوجب التحقيق والمحاسبة. كما أنه منح المواطن أملًا أوليًا بأن القانون قد يكون هو المنفذ الوحيد للخروج من نفق العتمة.

وبينما يترقب الشارع نتائج التحقيق، يرى متابعون أن نجاح النيابة في هذا الملف سيكون اختبارًا حقيقيًا لجدية الدولة في حماية حقوق المواطنين، بعيدًا عن الحسابات السياسية.

حضرموت بين عتمة الحاضر ورهانات المستقبل

اليوم، تبدو المكلا وكأنها عالقة بين عتمة الحاضر ورهانات المستقبل. فمن جهة، يواجه السكان معاناة غير مسبوقة، ومن جهة أخرى، تلوح بوادر تحرك قانوني قد يضع حدًا لاستخدام الخدمات كأوراق ابتزاز.

التقارير التي عُرضت خلال اللقاءات، إلى جانب البلاغ الرسمي المقدم للنائب العام، أعادت الأزمة إلى مسارها الطبيعي: قضية حقوق إنسان وعدالة، وليست معركة نفوذ بين مراكز القوى.

غير أن الطريق ما زال طويلًا، فالمواطنون ينتظرون أفعالًا ملموسة، لا بيانات وتصريحات. وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل ينجح المسار القضائي في فرض هيبة الدولة وإنهاء عبث الوقود، أم تبقى حضرموت تدور في دوامة الصراع وتدفع ثمنها من حياة أبنائها؟