الصوت الجنوبي – تقرير خاص

تشهد الأسواق في محافظات الجنوب حالة من الجدل الواسع، بعد موجة الانخفاض الملحوظ في أسعار صرف العملات الأجنبية أمام العملة الوطنية، وهو انخفاض اعتبره كثير من المراقبين “غير منطقي” في ظل استمرار معظم السلع على أسعارها السابقة.

هذا التناقض جعل الشارع الجنوبي يتساءل: هل ما يحدث انعكاس لتحسن فعلي في الأداء الاقتصادي، أم مجرد “فقاعة” سرعان ما ستتلاشى؟

خلفية الأزمة

منذ سنوات تعيش العملة المحلية انهيارات متسارعة مقابل الدولار الأميركي والريال السعودي، وهو ما انعكس بشكل مباشر على أسعار المواد الغذائية والوقود والأدوية والخدمات.

ومع كل هبوط جديد للريال، ترتفع الأسعار بصورة جنونية، فيما يظل دخل المواطن ثابتاً أو في تراجع، ما أدى إلى مضاعفة معدلات الفقر والمعاناة المعيشية.

إلا أن المستجد اللافت أخيراً هو الانخفاض المفاجئ الذي شهدته أسعار الدولار من قرابة 3000 ريال إلى نحو 1600 ريال خلال فترة قصيرة خلال يوليو-أغسطس الماضيين، وهو أمر أربك الأسواق والتجار والمواطنين على حد سواء.

فالتجار باتوا في حيرة: هل يخزنون بضائعهم بانتظار اتضاح الرؤية، أم يعيدون تسعيرها يومياً وفقاً للتقلبات؟ والمواطن البسيط يتساءل: هل ستنعكس هذه “المعجزة” على أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية؟

دور المجلس الانتقالي الجنوبي

في ظل هذا الوضع المضطرب، برز دور المجلس الانتقالي الجنوبي الذي سعى إلى اتخاذ إجراءات مالية عاجلة لوقف الانهيار الشامل. فالمجلس، بحسب خبراء اقتصاديين، لم يكتفِ بمتابعة الأزمة بل دخل على خط المعالجات بشكل مباشر، من خلال تدخلاته في البنك المركزي بعدن وفرض رقابة على شركات الصرافة، إضافة إلى تفعيل أدوات قانونية للحد من المضاربة في السوق السوداء.

ويرى مراقبون أن هذه التحركات كانت بمثابة “كبح جماح” الانهيار، لكنها في المقابل لم تضع بعد أسساً صلبة لمعالجة الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد. ويشير هؤلاء إلى أن المجلس الانتقالي استطاع أن يمنع الانهيار الكارثي، لكنه يواجه تحديات كبيرة في تثبيت هذا الاستقرار المؤقت وتحويله إلى مسار اقتصادي متين.

حقيقة الاستقرار أم وهم سياسي؟

الكاتب السياسي الجنوبي هاتي بن قفلة تحدث “للصوت الجنوبي”، وقال: “ما يحدث اليوم من انخفاض في أسعار الصرف لا يمكن وصفه بأنه استقرار اقتصادي حقيقي. هو أقرب إلى عملية امتصاص غضب شعبي نتيجة التدهور الكبير الذي وصل إليه الوضع المعيشي.

المجلس الانتقالي الجنوبي حاول التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنه يفتقر إلى صلاحيات مالية واسعة نتيجة هيمنة أطراف أخرى على القرار الاقتصادي، وهو ما يعقّد المشهد”، على حد قوله.

وأضاف بن قفلة: “المجلس الانتقالي يتحمل العبء الأكبر لأنه الأقرب إلى المواطن في الجنوب، بينما مجلس القيادة الرئاسي غائب عن المشهد تماماً. المشكلة أن المواطن البسيط لا يعنيه من المسؤول؛ كل ما يراه هو أن الأسعار لم تنخفض بالقدر الذي يتناسب مع تراجع سعر الدولار. هذا ما يجعل الناس يعتقدون أن ما يحدث مجرد احتيال أو تلاعب من قبل قوى نافذة في السوق المالي”، حسب وصفه.

تأثير الأزمة على المواطن

الشارع الجنوبي يتعامل مع هذه الانخفاضات الأخيرة بشيء من الحذر والريبة. فالتجارب السابقة علمت الناس أن أي تحسن في قيمة العملة غالباً لا ينعكس إيجاباً على الأسواق. أسعار الأرز والدقيق والسكر والزيت مثلاً لم تشهد تراجعاً يذكر، بل بقيت مرتفعة عند نفس المستويات التي كانت عليها حينما كان الدولار يتجاوز 2500 ريال.

ويشير تجار الجملة إلى أنهم لا يستطيعون خفض الأسعار بشكل فوري، مبررين ذلك بأن بضائعهم تم استيرادها بأسعار صرف مرتفعة، وأن أي خفض الآن يعني تكبدهم خسائر مالية. لكن في المقابل، يعتقد مواطنون أن هذه المبررات غير مقنعة، وأن هناك استغلالاً واضحاً للأوضاع الاقتصادية من قبل التجار لتحقيق مكاسب على حساب المستهلك.

غياب الرقابة الحكومية

الصحفي الجنوبي هيثم اليافعي قال “للصوت الجنوبي”: “المشكلة الحقيقية ليست في تقلبات أسعار الصرف بقدر ما هي في غياب الرقابة الحكومية على الأسواق. حتى وإن انخفض الدولار إلى النصف، فإن غياب الجهات الرقابية يجعل التجار يتحكمون بالأسعار كما يشاؤون. المواطن يدفع الثمن في النهاية، بينما الحكومة عاجزة عن القيام بدورها”، وفق تعبيره.

وتابع اليافعي: “المجلس الانتقالي الجنوبي يحاول ملء هذا الفراغ عبر لجان رقابية ميدانية، لكن هذا الجهد محدود ولا يغطي جميع المحافظات. نحن بحاجة إلى سياسة اقتصادية متكاملة، تشمل ضبط الاستيراد، وتفعيل القضاء ضد المحتكرين، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والعملة المحلية. من دون ذلك، سيبقى أي تحسن في سعر الصرف مجرد خبر عابر لا يغيّر من الواقع شيئاً”، حسب قوله.

ويرى مراقبون أن الملف الاقتصادي في الجنوب لم يعد شأناً مالياً فقط، بل بات ورقة سياسية تستخدمها أطراف عدة لإضعاف المجلس الانتقالي.

فمع كل تقلب في سعر الصرف، يزداد الضغط الشعبي على المجلس، ويظهر كأنه المسؤول الوحيد عن معاناة الناس، رغم أن القرارات الاقتصادية السيادية بيد حكومة معترف بها دولياً لكنها غائبة عن الجنوب.

ويشير المحللون إلى أن خصوم الانتقالي يحاولون إظهار أي فشل اقتصادي كدليل على عجزه عن إدارة الجنوب، في حين أن الواقع أكثر تعقيداً بكثير. فالانتقالي يتحرك ضمن حدود إمكانياته، بينما تظل الموارد النفطية والغازية، والموانئ الاستراتيجية، خاضعة لسيطرة قوى أخرى لا تصب عائداتها في خدمة المواطن الجنوبي.

جدلية الأسعار والدخل

من الناحية الاقتصادية البحتة، فإن انخفاض سعر الدولار من 3000 إلى 1600 ريال يُفترض أن يؤدي إلى تراجع كبير في أسعار السلع الأساسية. لكن الواقع يقول غير ذلك: الأسعار بالكاد تحركت، إن تحركت أصلاً. هذا التناقض يثير سؤالاً أساسياً: ما الفائدة من تحسن العملة إذا لم ينعكس على السوق؟

ويجيب الخبراء بأن المشكلة تكمن في غياب آليات الربط بين سعر الصرف وبين أسعار السلع. فالتاجر يعمل بعقليته الخاصة، والحكومة لا تفرض عليه تسعيرة ملزمة، والمواطن هو الحلقة الأضعف. وهكذا، يبقى “التحسن” مجرد أرقام على شاشات محلات الصرافة، لا علاقة لها بحياة الناس اليومية.

مسؤولية من؟

السؤال الجوهري الذي يطرحه الشارع الجنوبي اليوم: من يتحمل مسؤولية هذا التضارب؟ البعض يوجه أصابع الاتهام نحو التجار الجشعين، والبعض الآخر نحو غياب الدولة.

لكن المؤكد أن الأزمة ليست وليدة اللحظة. فهي تراكم سنوات من الفساد الحكومي، وغياب الإصلاحات.

ويبقى السؤال الأهم: هل الانخفاض الحالي للدولار مجرد موجة مؤقتة سرعان ما ستنتهي، أم بداية لمسار استقرار اقتصادي طويل الأمد؟ لا أحد يملك الإجابة القاطعة. لكن التجارب السابقة تجعل غالبية الناس تتوقع أن يكون ما يحدث مجرد “استراحة قصيرة” قبل عودة الانهيار مجدداً.

ويرى اقتصاديون أن السبيل الوحيد للخروج من هذا النفق يتمثل في تفعيل دور المؤسسات الاقتصادية الجنوبية تحت إشراف المجلس الانتقالي، والبدء في بناء سياسة مالية مستقلة، بعيداً عن تعقيدات الحكومة المركزية. كما يشددون على ضرورة استغلال الموارد المحلية في الجنوب وتوجيهها لصالح تحسين المعيشة.