الصوت الجنوبي – تقرير خاص

في أقصى شرق الجنوب، وعلى امتداد السواحل والجبال بمحافظة المهرة، يعيش الناس بذاكرة لغوية فريدة تعود إلى آلاف السنين. إنها اللغة المهرية، التي لا يتحدث بها إلا أبناء هذه البقعة الجغرافية من جنوب الجزيرة العربية، محتفظين بها كجزء أصيل من هويتهم وانتمائهم، رغم التحولات التاريخية الكبيرة التي عصفت بالمنطقة.

تُصنَّف المهرية ضمن اللغات السامية الجنوبية القديمة، وهي اليوم واحدة من اللغات المهددة بالاندثار بحسب تقارير اليونسكو. ولا يزال عدد متحدثيها يتراوح بين 100 – 200 ألف نسمة، ينتشرون في المهرة وأجزاء من ظفار العُمانية وبعض الجزر القريبة.

جذور ممتدة

يرى الباحثون أن اللغة المهرية تعود إلى ما قبل الإسلام بقرون، وأنها شكّلت جسراً حضارياً بين اللغات السامية القديمة مثل السبئية والآرامية والأكادية. ومع انتشار العربية الفصحى بعد الإسلام، انحسرت هذه اللغات تدريجياً، ولم يبقَ منها إلا جيوب صغيرة، كان أبرزها اللغة المهرية التي صمدت عبر القرون بفضل تماسك المجتمع المهري وتمسكه بتراثه.

وعاء الهوية

الباحث في التراث المهري الأستاذ خالد المهري، قال في حديثه لـ”الصوت الجنوبي”: “اللغة المهرية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي وعاء الهوية المهرية وأرشيف التاريخ الشفهي لأبناء هذه الأرض. من خلالها حُفظ الشعر الشعبي والقصص والأساطير والأمثال التي شكّلت ذاكرة جماعية لشعب المهرة”.

وأضاف أنّ هذه اللغة بمثابة جسر بين الأجيال، ولها دور كبير في إبقاء الثقافة المحلية حيّة رغم موجات العولمة والاندماج. ولو اندثرت، ستختفي معها ذاكرة جمعية كاملة يصعب تعويضها.

وأشار إلى أنّ الاهتمام الرسمي بالهوية المهرية ازداد في السنوات الأخيرة، لافتاً إلى أنّ المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة الرئيس القائد عيدروس الزُبيدي فتح المجال أمام النقاشات حول حماية الموروث الثقافي واللغوي الجنوبي، بما في ذلك اللغة المهرية، باعتبارها جزءاً من المشروع الوطني الأشمل.

تحديات البقاء

منذ أكثر من عقد، حذّرت اليونسكو من أنّ المهرية، مثل كثير من اللغات غير المكتوبة، تواجه خطر الزوال. فغياب نظام كتابي معتمد لها يجعلها عرضة للنسيان مع تسارع حركة الحياة العصرية، وتزايد نفوذ العربية الفصحى والإنجليزية في التعليم والإعلام.

الدكتور صلاح الشنيني، المتخصص في دراسات اللغة العربية والباحث في اللغة المهرية، أوضح لـ”الصوت الجنوبي” أنّ اللغة المهرية تواجه تحديات متراكمة، تبدأ من غياب المناهج التعليمية المكرسة لهذه اللغة، إلى كونها ما تزال محصورة في التداول الشفهي داخل المنازل والمجتمع.

وأضاف أنّ الضعف الكبير في الدعم المؤسسي والرسمي للمراكز البحثية جعل الجهود المبذولة لحماية المهرية محدودة الأثر.

وأشار الشنيني إلى أنّ “المهرية ليست مجرد لغة محلية، بل هي مادة علمية غنية في الدراسات المقارنة للغات السامية. فهي تحتفظ ببعض الصيغ الصرفية والأصوات القديمة التي اندثرت في العربية، مما يجعلها مرجعاً مهماً للباحثين”.

واعتبر أنّ الحفاظ على هذه اللغة مسؤولية وطنية تتجاوز حدود المهرة، موضحاً أن “المجلس الانتقالي الجنوبي، عبر مبادراته الثقافية، لعب دوراً في إعادة الاعتبار للهوية الجنوبية بما فيها اللغة المهرية”.

جهود للحفاظ

في العام 2017، أُنشئ مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث، الذي مثّل خطوة فارقة في مسيرة حماية هذه اللغة. عمل المركز على جمع المفردات ومحاولة صياغة نظام كتابي أولي، إلى جانب تنظيم مؤتمرات علمية وندوات محلية ودولية.

ويرى خالد المهري أن هذه الجهود بحاجة إلى غطاء مؤسسي أكبر ودعم مالي وفني مستمر، بما يتيح تدريب كوادر شابة من أبناء المهرة على البحث والتوثيق. بينما شدّد الدكتور الشنيني على أن تجربة المركز، رغم محدوديتها، أثبتت أن اللغة يمكن أن تنتقل من حالة الشفاهية إلى التوثيق العلمي المنظم، شريطة أن تتوفر الإرادة والدعم الكافي.

بين الانقراض والبعث

بحسب تقديرات الأمم المتحدة، هناك لغات حول العالم تنقرض تدريجيا. ويخشى باحثون أن تكون المهرية جزءاً من هذه القائمة بحلول نهاية القرن. لكن ثمة مؤشرات إيجابية تدعو للتفاؤل، منها تزايد اهتمام الشباب المهري بلغتهم واستخدامها في الشعر والغناء والإعلام المحلي.

يقول خالد المهري إن “المجتمع المهري نفسه هو خط الدفاع الأول عن لغته، فحين يتحدث الأطفال المهرية في البيوت، تترسخ اللغة جيلاً بعد جيل”.

فيما يرى الشنيني أن “إحياء المهرية يتطلب رؤية استراتيجية، تبدأ من المدارس وتصل إلى الإعلام والفنون. فبدون دمجها في هذه المجالات، سيبقى حضورها محدوداً في الإطار الشفهي”.

لغة وهوية

رغم كل التحديات، تظل المهرية رمزاً للصمود الثقافي في جنوب اليمن. فهي لم تعد لغة تواصل محلية فحسب، بل أصبحت علامة على التميّز والهوية في منطقة غنية بالتنوع.

وبحسب الباحثين، فإن مستقبل هذه اللغة سيعتمد على قدرة أبناء المهرة، ومعهم المؤسسات المعنية، على تحويلها من تراث شفهي مهدد إلى موروث مكتوب ومؤسسي.

ويختم خالد المهري حديثه بالقول: “المهرية ليست مجرد إرث لغوي، إنها هوية كاملة. وحين نتمسك بها، فإننا لا نحافظ على كلمات فقط، بل نصون تاريخاً عريقاً وذاكرة جمعية تمتد لآلاف السنين”.