الصوت الجنوبي – تقرير خاص

تصاعد الجدل في الشارع الجنوبي مؤخرا، حول الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، في ظل شكاوى متكررة من مواطنين يتحدثون عن جشع التجار وغياب الرقابة الرسمية.

وبينما يواصل التجار رفع أسعار السلع الأساسية بشكل مبالغ فيه، يحاول المجلس الانتقالي الجنوبي التخفيف من وطأة الأزمة عبر إجراءات متفرقة، لكنه يواجه تحديات معقدة ترتبط بالوضع الاقتصادي العام في البلاد.

انهيار العملة وأثره على الناس

منذ اندلاع الحرب في البلاد عام 2014، وما تلاها من تراجع متواصل في قيمة العملة الوطنية، انخفضت قدرة المواطنين الشرائية بشكل لافت. فقد أصبح الراتب الشهري، الذي كان بالكاد يغطي نفقات الأسر سابقاً، لا يكفي اليوم سوى لأيام معدودة.

ورغم تسجيل سعر الصرف بعض التحسن النسبي خلال الأشهر الماضية، إذ تراجع سعر الدولار الأميركي من حدود 2850 ريال إلى ما دون 1617 ريال، إلا أن الأسواق لم تعكس هذا التغير، إذ تمسّك التجار بمستويات مرتفعة للأسعار.

هذا التناقض أثار موجة غضب شعبي، حيث رأى المواطنون أن التجار يتعمدون تجاهل أي تحسن في قيمة العملة المحلية، ويواصلون تحميلهم أعباء مضاعفة. وعبّر كثيرون عن سخطهم إزاء غياب آليات رقابية قادرة على ردع التجار، في وقت يعيش فيه ملايين الجنوبيين على حافة الفقر.

غياب الرقابة

المحلل السياسي الجنوبي صلاح بادحيدوح قال “للصوت الجنوبي” إن ما يجري “ليس مجرد نتيجة طبيعية لارتفاع التكاليف العالمية أو الحرب، بل انعكاس مباشر لغياب منظومة رقابية فعّالة طوال السنوات الماضية”. وأضاف أن بعض التجار استغلوا الفوضى ليحولوا الحرب إلى فرصة لمراكمة الأرباح، متجاهلين عمداً التغيرات الإيجابية في أسعار الصرف.

وأشار بادحيدوح إلى أنّ المجلس الانتقالي “يحاول، رغم الظروف الصعبة والإمكانات المحدودة، أن يضع حداً لهذا العبث من خلال لجان ميدانية وإجراءات سياسية”، لكنه شدد على أن “نجاح هذه الجهود يتطلب إرادة قوية ودعماً شعبياً مستمراً”.

من جانبه، وصف الصحفي الجنوبي عيسى بن الشيخ أبوبكر المشهد بأنه “حلقة مفرغة يعيشها المواطن”. وقال: “في كل مرة ترتفع الأسعار بينما يبقى الدخل ثابتاً، بل ومتراجعاً بفعل التضخم”.

وأوضح “للصوت الجنوبي” أن كثيراً من العائلات اضطرت للتخلي عن سلع أساسية، حتى تلك المتعلقة بالغذاء والدواء، وأن بعض الأسر لم تعد قادرة على شراء البروتينات أو الفواكه إلا في مناسبات نادرة.

وأضاف أبوبكر أن المواطن الجنوبي بات يشعر أنه يقف وحيداً أمام جشع التجار، “لولا أن المجلس الانتقالي بدأ مؤخراً بتحركات ملموسة لمحاولة السيطرة على الأوضاع”.

أزمة اقتصادية وسياسية

الأزمة لم تعد اقتصادية بحتة، بل اتخذت بعداً سياسياً أيضاً. فخصوم المجلس الانتقالي يستغلون هذا الملف لتشويه صورته والتقليل من قدرته على إدارة الشأن الاقتصادي، فيما يحاول المجلس تقديم نفسه كقوة سياسية مختلفة وأكثر قرباً من الناس مقارنة بالحكومات السابقة.

وبحسب مسؤولين محليين، أوفدت لجان رقابية إلى أسواق متعددة، كما فتحت خطوط تواصل مع بعض التجار لتثبيت أسعار سلع أساسية، غير أن هذه الإجراءات لم تثمر عن نتائج ملموسة في جميع السلع بعد، لكنها أعطت إشارة أولية إلى وجود سلطة تحاول فرض قواعد جديدة في الأسواق.

ورغم تحسن سعر الصرف، لا يزال المواطنون يواجهون أسعاراً مرتفعة، بل إن بعضها ارتفع في الفترة الأخيرة. ويقول مراقبون إن هذه المفارقة تعكس بوضوح أن المشكلة ليست في تقلبات سعر العملة وحدها، بل في سلوكيات بعض التجار التي يغذيها غياب الضوابط والرقابة.

ويرى بادحيدوح أن الحل يكمن في “بناء شراكة حقيقية بين السلطة السياسية والمجتمع”، مشدداً على أن المواطن يجب أن يلعب دوراً في الرقابة الشعبية من خلال التبليغ عن حالات الاستغلال والاحتكار. وقال: “المعركة الاقتصادية لا تقل خطورة عن المعارك العسكرية، لأن الغلاء يفتك بالمجتمع بصمت ويمثل تهديداً للاستقرار الاجتماعي”.

الثقة مرتبطة بالأسعار

من جانبه، أكد الصحفي عيسى بن الشيخ أبوبكر أن المواطن الجنوبي أصبح يقيس نجاح أي خطوة اقتصادية بمدى انعكاسها المباشر على أسعار الدقيق والزيت في السوق. وقال: “الناس لم يعودوا يثقون بالوعود أو البيانات الرسمية، بل ينظرون إلى أسعار السلع اليومية”.

وفي نهاية المطاف، يبدو أن الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الجنوب اليوم أعمق من مجرد معركة أسعار أو تقلبات في سعر الصرف. فهي في جوهرها انعكاس لصراع طويل بين مراكز نفوذ تسعى للإبقاء على حالة الفوضى الاقتصادية، وبين سلطة سياسية ناشئة تحاول فرض حضورها وسط تحديات متشابكة.

هذا التناقض جعل من الأسواق ساحة مواجهة غير معلنة، تتقاطع فيها مصالح التجار وشبكات الفساد مع محاولات المجلس الانتقالي الجنوبي لإعادة الاعتبار للمؤسسات.

لكن الواقع على الأرض يكشف أن الطريق لا يزال مليئاً بالعقبات. فالتجار، الذين راكموا ثروات ضخمة خلال سنوات الحرب، لا ينظرون إلى استقرار العملة كسبب لتخفيض الأسعار، بل كفرصة جديدة لتعزيز أرباحهم. في المقابل، يدرك المواطن أن معركته لم تعد فقط مع غلاء المعيشة، بل مع منظومة اقتصادية غير عادلة تفرض عليه التضحية اليومية بلقمة العيش.

وبينما يواصل المواطن الجنوبي تحمّل كلفة يومية باهظة، يبقى المستقبل مفتوحاً على احتمالات عدة: فإما أن ينجح الانتقالي في تحويل معركته الاقتصادية إلى ورقة قوة سياسية، أو أن تظل الأزمة معلقّة، تزيد من هشاشة المجتمع وتعمّق حالة الفوضى التي أرّقت الجنوب لسنوات طويلة.