الأربعاء, أبريل 2, 2025
عبدالله ناصر السييلي
” أنت تافه , وتافه أنت أيضاً !
كلّكم تافهون !! “
هكذا كان ” غيلان ” يجزر علاقته مع أصدقاء طفولته ..
هناك داخل ذلك الظل ستجدني , بأحشاء ذلك الماء الذي تتوضأ به النجوم ..
لمَ لا ندخن سيجارة خيباتنا لتطير بعيداً عنا ؟! ونشربُ الحلم خمراً لننسى ؟!
لمَ لا؟!
فكلُّ شيء يحدث كـ ” ومضة ” ليتلاشى قبل أن يحدث ..
وهاهو الآن يجدُ نفسه يتوسط أسرة أخرى مؤلّفة من جدار , قضيب حديدي وآلة تصوير على الزاوية تراقبه ,
يبدأ مسلسل ترقُّب المجهول وما ينتظره بعد لحظات ..
ذلك ” التهور ” العنيف الذي كان يمارسه دون أن يكترث لأي شيء , إنما كان يبحثُ عن كلمات لطيفة يصفهُ بها من حوله مرصعة بلقبٍ ” غيلان البطل ” مثلاً,
لا يعرف المعنى العميق من تلك الكلمة , ولا ينبت في ذهنه سوى اعتقاد هرِم بأنَّ ما يفعله يجعله الأنسب لتلك الكلمة .
ليس غيلان وحده , فأنا أيضا , كنتُ بطلاً مزيفا , و حللتُ داخل بيت هذه الأسرة الدموية ضيفاً قبل أن يأتي .
هل كنتُ أنتظره ؟!
فلقد كان كالنور الذي يضيئ وحدتي داخل هذه الحجرة الصغيرة .
يختلف عني كثيراً ..
فغروره اللعين , يحلِّق به كثيراً , اختياراتُه الغبية دائما أيضاً ..
من يحيطون به نحتوا في عقله اللاواعي أشياء من ذلك ..
” فانيلته ” غطاءٌ و نعاله سريرٌ , والبيت , لا أدري ماذا كان !!
يومان مرّا منذُ مجيئه ..
الصمت – وحده – بيننا ..
لم يكن الوقت مناسباً للتعارف , ما زال في جوف الصدمة , رخواً وأقلّ من أن يتحمل كل هذه البشاعة .
الليلة (1):
يأكل الوهم باستخدام عقارب الساعة , ويشربُ أمله الضئيل , تماماً مثلما فعلت عندما جئتُ هنا أول مرة ..
ربما انبثق في ذهنه أنَّ من كانوا يحيطون به هنااااااك تحت السماء الزرقاء , سيأتون لإنقاذه , وينتشلونه من عجين هذه اللعنة ” غيلان يا صديقي ! إنها الأعين التي لا تنام ذاتها ترصد سكناتك قبل حركاتك هنا !! “
كان لا يزال يحملُ أمله الضئيل بحجم تلك الرعشة الباردة التي تشرّبت جسده النحيل الغض, بفمه الذي هرب منه اللعاب , وبلسانه التي يأكلها عند الاستجواب ..
تركتهُ يتمسكُ بتلك القشة التي كومتها يد الوهم بعناية مبالغ فيها , لثمانِ ليالٍ أخرى
الليلة الـ9 :
بعد منتصف الليل : قرر ” غيلان ” أن يحدثني ..
ويخدش صمته الذي قارب الـ192 ساعة , بسؤال
ـ لمَ تأخروا ؟!
ـ من هم ؟
ـ سيأتون غداً – لن يتركوني هنا – ربما الآن يفعلون كل ما بوسعهم
ـ من هم ؟!
ـ إنني أؤنب نفسي اللعينة , التي جعلتهم يرتعشون خوفاً لأجلي , ولا ينامون الليل حتى تنقضي وحشة ليلي بهم..
ـ من هم ؟
ـ لا يهمُّ ..
صمتُ الـ192 ساعة يعود مرة أخرى , ولكن بعد أن نمت له أعضاء جعلته يبدو أضخم وأكبر..
ـ ما به ؟! أيكون الجنون ؟! وبهذه السرعة؟! أزمُّ شفتي ذهولي وأهرع إلى بقعة , كنتُ قد أعددتُّها جيدا في ذلك الحيّز المهول من ذلك الصمت ..
الليلة الـ10 :
ـ أتعلمُ لماذا تعروني الدهشة فأبكي , بين أكفِّ الزائرين؟
بنبرة ” فضول ” تخلّلت مساماتي :
ـ لمَ يا غيلان ؟
ـ كنتُ أغضُ البصر عنهم , كنت أهربُ منهم , كنتُ يا رفيق الألم , أتسمحُ لي أن أناديك هكذا ؟
ـ أعجبني بالمناسبة , لا مانع ياصديقي !
ـ كنتُ أنتظرُ تلك الطيور المجنحة بريش السراب , حتى تخلوا عني , نعم كنتُ غبياً لدرجة أن حياتي أصبحت الآن بين الموت والحياة , من شاهدتهم خلف القضبان و يتألمون لأجلي , هم من تخليت عنهم يوماً وذهبتُ ألهث خلف طيور السراب اللعينة .
إنها صدمة أحسب أنها كانت كافية جداً لتجعل موته أجمل من جرعات الموت التي نتجرعها لحظة بلحظة , بل أقوى من ذبذبات الكهرباء ذات الـ250 فولت خلال جسد مبلل بالماء , و أوسخ من ” مرحاض ” يتناوب عليه ” مائتا شخص “.
وكانت كافية أيضا لتبقيه وتبقيني رهيني صمتنا القاتل المتلبّث لعشرة ليالٍ أخرى .
الليلة الـ20 :
تقلصت مشاهد الفلم في عقل غيلان , ليخبرني فجأة , وأنا أقرأ أحد الكتب الدموية لتلك الأسرة تمضية للوقت على الأرجح ..
ـ أتعلم يا رفيق الألم , إنني هنا , والآن استبعدت الكثير من الممثلين المزيفين في حياتي , و أصبح عقلي يضاجع الحقيقة اللعينة التي تشُقُّني كلَّ يوم إلى مائة ألف مني .
أغلقتُ الكتاب , واستلقيتُ على سريري المصنوع من ملابسي ,ووسادتي المصنوعة من نعالي ..
أفكرُ في مغادرته ..
التي لا أتمناها أبدا , وأتمناها أكثر ..
سأكون مرة أخرى وحدي هنا ,, أتمنى أن يغادر , إنه يستحق ذلك !
وعلى الرغم من ذلك الجسد , الذي ربما تحتاج إلى ميكروسكوب خاص لتراه , لم يضعف بل كان الأقوى هنا , و الأشجع , والأكثر تهيُّؤاً لولادة جديدة وسعيدة !
أخذ يخطط , و يرسم , يستبعد ويضيف , يعيدُ ترتيب ذرّات حياته أمامي .
تأخر النور كثيراً ..
مضغته العتمة بما فيه الكفاية , لكنه لم يركن إلى السواد أبدا ..
شيءٌ ما كان يجعلهُ مشتعلاً
قام بانحرافات بهيجة في دوره بذلك الفلم الذي أخرجته الصدمة وأعدت الخيبة كل سيناريوهاته وحواراته ..
وبعد كل شيء لم يتوقعه , لم يتوقف الشريط عن الدوران فلم تكن هنالك ليلةٌ بعد الـ20 ليلة , فالعتمة لم تخيّم عليه مجددا , كانت الشمسُ تضيء أكثر ممّا يطلب منها.
الـليلة الـ50:
غادر ” غيلان ” الأسرة , والدموع تثخن المكان بالذكريات التي يجب ألا نتذكرها
تباً سأشتاق له كثيرا , فقد كان يمدني بتلك الطاقة الغريبة , أصبحنا رفقاء في الألم و أشياء أخرى لا يسعها العمر .
الليلة الـ 210 :
وحيداً أذرع ذاكرتي جيئة وذهابا ( الأشخاص ذاتهم , الأفكار ذاتها , كلُّ شيء ذاته وربما أسوأ مما كان وسيكون عليه )
بعث لي ” غيلان ” رسالة خطية عبر أحد أفراد الأسرة بطريقة سرية ..
وبلهفة وشوق فتحتُها , و التهمتُ الكلمات المصلوبة على السطور ..
” يا رفيق الألم , لحظة الولادة , شعور لا يوصف ..
شيء فوق العادة , فوق السماء , فوق الفضاء , تنبثق من ذلك الرحم المظلم إلى الحياة الجديدة .
لقد لامستُ الضوء حقاً , فعلتُ ذلك , رسمتُ قنديلا في الظلام , بل خلقته ..
قد أكون خسرتُ كل شيء مسبقاً , ولكن يا رفيقي ما لا تعلمه الحياة عني وأنت تعلمهُ فقط , أنني سأعيدُ بناء كل شيء وأصلُ إلى أكبر من ذلك , وسأخلقُ نوراً لا تخنقه قبضات الزائفين ..
هناك داخل ذلك الظل ستجدني , بأحشاء ذلك الماء الذي تتوضأ به النجوم ..
لمَ لا ندخن سيجارة خيباتنا لتطير بعيداً عنا ؟! ونشربُ الحلم خمراً لننسى ؟!
لمَ لا؟!
فقد تصبح الــ (ومضة) التي أوصلتنا هنا , بسرعة السلحفاء , عندما تلتحمُ معنا , وتدوم سعادتنا طويلاً ..
من (البطل غيلان) , المزيف سابقاً إلى (رفيق الألم)
أنتظرك ..
أ ن ت ظ ر ك
هنا .. هنا ..
لا تتأخر !