الصوت الجنوبي – تقرير خاص

رغم مرور أكثر من أسبوع على صدور قرار مجلس القيادة الرئاسي رقم (11) لعام 2025 بشأن خطة “الإصلاحات الاقتصادية الشاملة”، ما تزال التساؤلات تتصاعد في الأوساط الاقتصادية والسياسية حول جدوى هذه الخطة وقدرتها على تحقيق نتائج ملموسة، في ظل واقع اقتصادي وسياسي هش، واستمرار استئثار القوى الشمالية بموارد محافظات الشمال دون أي التزام فعلي بتوريدها إلى البنك المركزي، في الوقت الذي تُثقل فيه المحافظات الجنوبية بالأعباء المالية والتبعات الإدارية.

القرار الذي جاء في إطار ما وصفته الحكومة بـ”المعالجة الشاملة للاختلالات في تحصيل وتوريد الموارد العامة”، ألزم جميع المحافظات، بما فيها مأرب وحضرموت والمهرة وعدن، بتوريد إيراداتها إلى حساب الحكومة العام في البنك المركزي، مع إلغاء الصناديق غير القانونية وإغلاق المنافذ المستحدثة.

لكن المتابعين يرون أن هذا القرار لا يتجاوز كونه “نصوصاً على الورق”، ما دامت المحافظات الشمالية، وفي مقدمتها مأرب، ترفض منذ سنوات توريد عائداتها الضخمة من النفط والغاز إلى البنك المركزي بعدن، وتحتفظ بها في حسابات مستقلة خارج إطار الشرعية المالية للدولة.

ازدواج في الالتزام

منذ نقل البنك المركزي إلى العاصمة عدن عام 2016، تحمّل الجنوب عبء الحفاظ على التوازن المالي للدولة، بينما ظل الشماليون يسيطرون على موارد ضخمة دون رقابة أو شفافية.

وتشير مصادر اقتصادية إلى أن محافظة مأرب وحدها تحقق أكثر من 60% من إيرادات الدولة من الغاز والنفط، إلا أنها ترفض منذ سنوات توريد أي مبالغ إلى البنك المركزي في عدن، وهو ما أدى إلى خلل كبير في هيكل الإيرادات الوطنية، وعجز الحكومة عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه الموظفين والمؤسسات.

وقال أستاذ الاقتصاد سعد باوزير في تصريح خاص لـ”الصوت الجنوبي”، إن ما يسمى بخطة الإصلاحات الاقتصادية “لن تنجح إطلاقاً في ظل استمرار استحواذ القوى الشمالية على موارد محافظاتها”، مشيراً إلى أن “القرار الرئاسي الجديد يعيد إنتاج الفشل ذاته الذي رافق القرارات السابقة، لأنه يتجاهل جوهر المشكلة وهو غياب العدالة في توزيع الموارد الوطنية”.

وأضاف باوزير أن “المجلس الانتقالي الجنوبي كان ولا يزال الجهة الوحيدة التي قدّمت حلولاً عملية لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار، سواء عبر دعم استقرار العملة أو مراقبة الإيرادات المحلية في عدن والمحافظات الجنوبية”، مؤكداً أن “نجاح أي إصلاح اقتصادي حقيقي يتطلب أولاً وقف العبث بموارد مأرب وتعز والحديدة، وإلزام سلطاتها بتوريد كامل العائدات إلى البنك المركزي في عدن”.

فشل حكومي متكرر

قرار الإصلاحات الأخير تضمن بنوداً واسعة تشمل منع الجبايات غير القانونية، وتوحيد الإجراءات الجمركية، وإلغاء الصناديق المستحدثة، وإغلاق المنافذ غير الرسمية في قنا والشحر ورأس العارة ونشطون. غير أن مراقبين يرون أن هذه البنود، وإن بدت منطقية من الناحية الفنية، فإنها تخفي في طياتها توجهاً سياسياً لتقويض استقلالية الإدارة المحلية في الجنوب، وإبقاء القرار المالي تحت هيمنة الحكومة المركزية الخاضعة لتوازنات الشمال.

ويرى الصحفي الاقتصادي الجنوبي فارس بن يمين أن “مجلس القيادة الرئاسي فقد منذ فترة طويلة قدرته على إدارة الملف الاقتصادي”، مضيفاً أن “الحكومة تتحدث عن إصلاحات بينما عاجزة عن تنفيذ أبسط البنود مثل توحيد الإيرادات أو ضبط التهريب”.

وأوضح بن يمين في حديثه لـ”الصوت الجنوبي” أن “ما يحدث اليوم هو تحميل الجنوب أعباء إضافية دون أن يحصل على أبسط حقوقه، فمحافظات مثل عدن والضالع ولحج وأبين تموّل خزينة الدولة عبر المنافذ والجمارك، بينما تستأثر مأرب وتعز بمعظم الموارد النفطية والغازية دون حسيب أو رقيب”.

وأضاف: “هذه السياسات غير المتوازنة لن تؤدي إلا إلى مزيد من الفشل الاقتصادي، ما لم يتخذ المجلس الانتقالي الجنوبي موقفاً واضحاً وصارماً تجاه استمرار هذا الاستنزاف، خاصة وأن المواطن الجنوبي هو المتضرر الأول من ارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات بسبب غياب العدالة المالية”.

غياب الإرادة السياسية

على الرغم من أن القرار رقم (11) شدد على ضرورة إغلاق المنافذ المستحدثة وإلغاء الصناديق غير القانونية، إلا أن غياب الإرادة السياسية لدى مجلس القيادة الرئاسي يجعل هذه التوجيهات بلا أثر فعلي. فالمجلس، الذي يضم أطرافاً متناقضة المصالح والانتماءات، لم ينجح منذ تشكيله في وضع رؤية اقتصادية موحدة أو فرض سلطة الدولة على جميع المحافظات.

ويشير مراقبون إلى أن المجلس الانتقالي الجنوبي، من جانبه، أبدى التزاماً كبيراً بدعم مؤسسات الدولة وتعزيز الشفافية المالية في المحافظات الجنوبية، وساهم في استقرار سعر العملة من خلال الرقابة على المنافذ والحد من التهريب. لكن هذا الجهد يقابله تهاون واضح من قبل سلطات مأرب التي ما زالت تدير مواردها بمعزل عن مؤسسات الدولة.

وفي هذا السياق، قال المحلل الاقتصادي سعد باوزير إن “الازدواج في الالتزام بين الشمال والجنوب هو السبب الرئيس في استمرار الأزمة”، مضيفاً أن “المجلس الرئاسي فشل في فرض مبدأ العدالة المالية، لأنه يخضع لحسابات سياسية ومناطقية على حساب المصلحة الوطنية”.

وأشار إلى أن “المجلس الانتقالي الجنوبي هو الطرف الوحيد الذي يتعامل بمسؤولية تجاه الاقتصاد الوطني، رغم محدودية صلاحياته، لأنه يدرك أن استقرار الجنوب الاقتصادي هو أساس أي تسوية سياسية مقبلة”.

الجنوب لن يدفع الثمن

تعاني المحافظات الجنوبية من أزمات مالية متراكمة، أبرزها تأخر صرف المرتبات وتراجع مستوى الخدمات الأساسية. وفي الوقت نفسه، تشير التقارير إلى أن الحكومة المركزية تعتمد بشكل رئيسي على الإيرادات المحصلة من عدن والمكلا والمنافذ الجنوبية لتغطية نفقاتها التشغيلية ورواتب مؤسساتها في جميع المحافظات.

ويرى الصحفي فارس بن يمين أن “هذه المفارقة توضح حجم الظلم الواقع على الجنوب وأنه حان الوقت لقلب الطاولة”، مؤكداً أن “الانتقالي الجنوبي لن يتردد في وضع إطار اقتصادي مستقل يضمن عدالة التوزيع، ويمنع تكرار نهب الموارد تحت غطاء الشرعية”.

وأضاف أن “التجربة أثبتت أن الحديث عن إصلاحات اقتصادية في ظل بقاء الموارد خارج سيطرة البنك المركزي بعدن هو مجرد وهم سياسي، فالإصلاح يبدأ من تحقيق المساواة في التوريد والإنفاق، وليس من إصدار القرارات الشكلية”.

نحو إصلاح حقيقي

إن فشل مجلس القيادة الرئاسي في فرض قراراته على المحافظات الشمالية يعكس عجزه عن إدارة الدولة بمفهومها المؤسسي، ويفتح الباب واسعاً أمام قوى الفساد لمواصلة العبث بالمال العام. وفي المقابل، أظهر المجلس الانتقالي الجنوبي التزاماً واضحاً بدعم مؤسسات الدولة، والدعوة إلى إصلاح حقيقي قائم على الشفافية والمحاسبة، بعيداً عن الإملاءات الحزبية والمناطقية.

ويخلص المحللون إلى أن أي “إصلاح اقتصادي” لن ينجح إلا إذا تم إنهاء حالة الازدواج المالي، وتوريد جميع الإيرادات إلى البنك المركزي في عدن، مع تمكين الحكومة من إدارة مواردها دون تدخل سياسي من أي طرف.