الصوت الجنوبي – تقرير خاص

لم تكن الحملات الرقابية الأخيرة التي شهدتها أسواق حضرموت مجرّد نزولات ميدانية روتينية، بل مثلت اختبارًا حقيقيًا لقدرة السلطات المحلية على مواجهة واحدة من أعقد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المواطن الحضرمي، فوضى الأسعار وتلاعب بعض التجار بظروف السوق. ورغم التحسن الملحوظ في قيمة العملة المحلية مؤخرًا، إلا أن المواطن ظل يواجه أسعارًا مرتفعة لا تعكس الواقع الاقتصادي الجديد، ما ولّد حالة من السخط الشعبي دفعت السلطة إلى التحرك.

في هذا السياق، جاء المؤتمر الصحفي الذي عقده مدير عام مكتب الصناعة والتجارة بساحل حضرموت، الأستاذ أحمد حسن باعوم، ليضع النقاط على الحروف ويكشف بالأرقام نتائج النزولات الرقابية التي استهدفت مختلف الأسواق التجارية والخدمية. وقد أظهرت هذه النتائج حجم المخالفات التي ارتكبها بعض التجار، والتحديات التي تعيق ضبط الأسواق، لتؤكد أن الطريق لا يزال طويلًا نحو استعادة التوازن بين الأسعار ودخل المواطن.

إن ما يحدث في حضرموت اليوم لا ينفصل عن المشهد العام في الجنوب، حيث تتقاطع عوامل اقتصادية معقدة، بدءًا من تحسن العملة المحلية، مرورًا بتأثيرات الموردين، وصولًا إلى غياب آليات رقابية صارمة في بعض الأسواق. وبين هذه التعقيدات، يجد المواطن نفسه عالقًا في معركة يومية لتأمين احتياجاته، ما يجعل أي خطوة رقابية جدية محل اهتمام وترقب واسع.

المؤتمر الصحفي – إعلان النتائج ورسائل الطمأنة

شكل المؤتمر الصحفي الذي عقده الأستاذ أحمد باعوم في 18 أغسطس بمدينة المكلا نقطة محورية في المشهد الرقابي. فقد أعلن فيه حصيلة النزولات الميدانية التي بدأت مطلع الشهر، والتي استهدفت أكثر من 1370 محلاً تجارياً بين مطاعم ومخابز ومكتبات ومتاجر بيع مواد غذائية. وكانت هذه الأرقام مؤشرًا واضحًا على أن الحملات لم تكن شكلية، بل عملية واسعة النطاق.

وكشف باعوم أن اللجان الرقابية رصدت 635 مخالفة، تنوعت بين عدم الالتزام بالأسعار المحددة، والتعامل بغير العملة الوطنية، وعدم إشهار الأسعار، وهي مخالفات انعكست بشكل مباشر على المستهلك. وأكد أن المرحلة الثالثة من الحملات ستشهد إحالة المخالفين إلى النيابة العامة، ما يمثل تحولًا في آلية التعامل مع التجار المتمردين على القوانين.

لم يقتصر خطاب باعوم على عرض الأرقام، بل تضمن رسائل طمأنة للمواطنين بأن السلطة عازمة على الاستمرار في هذه الحملات حتى تحقيق نتائج ملموسة. فقد شدد على أن الهدف ليس فرض التسعير المركزي، وإنما الوصول إلى “عدالة سعرية” تتناسب مع تحسن سعر الصرف وتضمن للتاجر ربحًا معقولًا دون استغلال المستهلك.

هذه الرسائل تعكس إدراك السلطات لحساسية المرحلة، إذ أن أي إخفاق في تحقيق نتائج واقعية على الأرض قد يفقد المواطنين الثقة بالحملات، ويعيدهم إلى حالة اليأس من جدوى الإجراءات الحكومية.

النزولات الميدانية – ضبط المخالفات وإغلاق المحال

في مختلف مديريات ساحل حضرموت، تحركت لجان ميدانية تابعة لمكاتب الصناعة والتجارة لتنفيذ قرارات النزول الرقابي. هذه النزولات لم تقتصر على ضبط أسعار المواد الغذائية فحسب، بل شملت أيضًا مجالات أخرى كالمخابز، المطاعم، محلات مواد البناء والأجهزة الإلكترونية.

في مديرية الشحر، على سبيل المثال، قامت اللجان بإغلاق عدة محال تجارية غير ملتزمة، وضبط أدوات صحية تالفة وغير صالحة للاستخدام. كما تم التشديد على ضرورة خفض الأسعار بما يتماشى مع تحسن العملة المحلية. أما في مديريات دوعن والضليعة والديس الشرقية، فقد رُصدت مخالفات مماثلة وتمت معالجتها وفقًا للإجراءات القانونية.

أحد الجوانب المهمة في هذه الحملات كان فرض التعامل الحصري بالعملة الوطنية ومنع التعامل بالعملات الأجنبية، وهي خطوة تهدف إلى تعزيز مكانة الريال اليمني في السوق المحلية، ومنع المزيد من التشوهات السعرية التي طالما عانى منها المستهلكون.

لكن هذه الإجراءات كشفت أيضًا عن حجم التحديات التي تواجه السلطة المحلية، خاصة في ظل ضعف الوعي لدى بعض التجار والمستهلكين بأهمية الالتزام بالعملة الوطنية، إضافة إلى محاولات بعض الموردين فرض أسعار مرتفعة بحجة ارتفاع تكاليف النقل أو انعدام المنافسة.

الفجوة بين سوق الجملة والتجزئة – أزمة تتطلب حلولًا جذرية

من أبرز ما سلطت الحملات الرقابية الضوء عليه هو الفجوة الكبيرة بين أسعار الجملة وأسعار التجزئة. ففي السوق المركزي للخضار بمنطقة فلك، تباع البطاطس بـ650 ريال للكيلو، بينما تصل إلى 1500 ريال في البسطات، أما الطماطم فتباع بـ650 ريال في الجملة مقابل 1400 ريال للمستهلك، والعنب بـ2000 ريال في الجملة ليباع بـ5000 ريال في التجزئة.

هذه الأرقام لا تكشف فقط عن تلاعب بعض الباعة الصغار، بل عن غياب آليات رقابية حقيقية في أسواق الجملة نفسها. فغياب مندوبين حكوميين دائمين لمراقبة حركة البيع والشراء يترك الباب مفتوحًا أمام الاحتكار والسمسرة، ما يؤدي إلى تضاعف الأسعار بشكل مبالغ فيه.

ويرى مراقبون أن الحل يكمن في إعادة تنظيم أسواق الجملة بشكل كامل، عبر فرض نظام إشراف مباشر، وإلزام الموردين بتقديم فواتير واضحة للأسعار، مع إنشاء قاعدة بيانات تُلزم الباعة بالبيع وفق هوامش ربح معقولة. فاستمرار الوضع الحالي يعني أن المستهلك سيظل الحلقة الأضعف، مهما تحسنت العملة أو زادت الحملات.

كما أن هذه الفجوة تكشف عن ضعف الروابط بين مستويات السوق المختلفة (المورد – الجملة – التجزئة – المستهلك)، وهو خلل هيكلي يحتاج إلى إصلاح أعمق من مجرد نزول ميداني موسمي.

ملف الأسماك – الثروة الغذائية تحت المجهر

لم تغب قضية أسعار الأسماك عن أجندة مكتب الصناعة والتجارة، حيث عُقدت لقاءات مع الاتحاد السمكي وجمعية الباعة لمناقشة آليات ضبط هذا القطاع الحيوي. فالأسماك، التي تمثل ثروة طبيعية وميزة اقتصادية لحضرموت، تحولت إلى عبء على المستهلكين بعد أن تجاوزت أسعار بعض الأنواع قدرتهم الشرائية.

وخلال هذه اللقاءات، أكد مدير المكتب أحمد باعوم أن الرقابة ستشمل المزادات السمكية وأسواق البيع المباشر، وأن المكتب سيعمل على منع التلاعب بالأسعار من قبل بعض التجار الذين يستغلون غياب الرقابة.

لكن التحدي في هذا الملف أكثر تعقيدًا، نظرًا لتداخل مصالح عدة جهات، بدءًا من الصيادين، مرورًا بالوسطاء، وصولًا إلى تجار الجملة والتجزئة. هذه السلسلة الطويلة من الوسطاء ترفع الأسعار النهائية بشكل كبير، ما يتطلب تدخلًا منظمًا لتقليصها وضمان وصول الأسماك للمستهلك بسعر عادل.

إن معالجة ملف الأسماك لا يقتصر على ضبط الأسعار فقط، بل يشمل أيضًا تحسين بيئة العمل للصيادين، وتطوير البنية التحتية للمزادات، وتوفير آليات نقل وتخزين حديثة تمنع الفساد وتقلل الفاقد.

صوت المواطن ودور القيادة المحلية – نحو رقابة مستدامة

في خضم هذه التحركات، برزت أصوات المواطنين التي أكدت أن الحملات الرقابية تمثل بارقة أمل طال انتظارها، لكنها لن تكون ذات جدوى إذا لم تستمر بوتيرة عالية وبآليات أكثر صرامة. المواطنون طالبوا بوجود دائم للجان الرقابية في الأسواق، وعدم الاكتفاء بحملات موسمية تنتهي سريعًا.

وفي هذا السياق، شدد العميد الركن سعيد أحمد المحمدي، رئيس القيادة المحلية للمجلس الانتقالي الجنوبي بحضرموت، على أن ضبط الأسواق أولوية قصوى للتخفيف من معاناة الأهالي.

وقال خلال لقائه بمدير مكتب الصناعة أحمد باعوم: “إن إعادة تسعير المواد بما يتناسب مع القدرة الشرائية للمواطن، مهمة وطنية قبل أن تكون إدارية، ونحن في المجلس الانتقالي سنقدم الدعم اللازم لإنجاح هذه الجهود.”

هذا الموقف يعكس تلاقي الإرادة السياسية مع المطالب الشعبية، وهو ما يمنح الحملات الرقابية دفعة قوية نحو الاستمرار. لكن التحدي الأكبر يبقى في تحويل هذه الحملات إلى منظومة رقابية مستدامة، قائمة على الشفافية والتعاون بين السلطات والمجتمع.

فالأسواق في حضرموت، كما في بقية محافظات الجنوب، لن تستقر إلا إذا تم بناء نظام رقابي مؤسسي، يمنع الاحتكار ويكفل للمستهلك حقوقه، ويضمن في الوقت ذاته عدالة التاجر وربحه المشروع.